عظة للمطران بولس يازجي
صفحة 1 من اصل 1
عظة للمطران بولس يازجي
تـعـزيـتـنا
"فنحصل على تعزية قويّة... بالرجاء الموضوع أمامنا"
يكلّمنا بولس الرسول في رسالة اليوم عن "تعزية قويّة" ينالها المؤمن في زمن الشدائد والصعوبات والجهاد، ويشرح لنا من أين تأتي هذه التعزية الكبيرة، وذلك بواسطة استذكار ما حدث مع إبراهيم.
آمن إبراهيم بالربّ، وتغرّب عن عشيرته وأرضه ورحل وقاسى في الحياة الكثير سائراً على الوعد الذي سمعه من الله: "سأكثِّر نسلَكَ كعدد نجوم السماء ورمل البحر". وما إن أنجبَ إسحقُ بعد أعجوبة وبنعمة سماويّة، إذ كانت سارةُ عاقراً لا تنجب، يتفاجأ، وإذا بالله يطلبُ منه اسحق ابنَه ذبيحةً، والذي كان يُفترض أن يتحقّقَ الوعدُ بواسطته. لقد جاء طلب الله لا منطقيّاً عكسَ وعده! ومع ذلك كان إيمان إبراهيم بالوعد قويّاً فوق المنطق البشريّ؛ ويبدو أنّه كان يؤمن تماماً بالكلمات التي قالها يسوع بعد زمان طويل "إنّ الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم"، لذلك قدّم ابنَه ذبيحةً حقيقيّة من كلِّ قلبه. لكن الله عندما رأى أنّ ذبحَ اسحق قد تمَّ في قلب إبراهيم، أوقف الذبيحة وأعاد اسحق إلى أبيه.
لهذا يقول بولس الرسول إنّ إبراهيم "تأنّى فنال الموعد"، أي صبرَ على التجارب والشدائد وظهر فيها أميناً مؤمناً بوعد الله مهما ظهرت الظروف مخالفة لذلك الوعد. كان إبراهيم يؤمن أنّ الله صادق، إذن لا بدّ أن تتحقّق المواعيد، وفعلاً هذا ما حصل له. هكذا زادتْ التجاربُ والشدائد التي تحمّلها إبراهيمُ من إيمانه بالله وعمّقتْ له الخبرةَ الشخصيّة بالله وثبتتْ ثقتَه به.
الشدائدُ هي أمر طبيعيّ في الحياة، لأنّ الإنسان يشقّ طريقه في عالم لا يراعيه دائماً لا طبيعيّاً ولا اجتماعيّاً، "وبعرق الجبين يأكل خبزه". وعلى الإنسان أن يجاهد ويتعب ليحافظ على حياته. لقد درج القول "كيف يشقى البار وينعم الشرير؟" وهذا القول صحيح نسبياً. لأنّ الجميع يشْقُون بشكل من الأشكال. إلاّ أنّ الشرير يتهرّب من المواجهة الشريفة لأوجه الشقاء في الحياة ويسلك طرقاً رخيصة مرّات على حساب الآخرين، فيبدو أنّه يحصل على تسهيلات في الحياة لا يحصل عليها البارّ، مثل الغنى غير الشرعي دون أتعاب،... الخ. لكن البارّ، من شرفيّة حياته ومن شعوره بالمسؤوليّة عن شقاء الجميع، يحمل في الحياة أتعاباً كثيرة ويتعرّض لشقاء مضاعف ربّما! هكذا بالحريّ جميع "الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى ويحبّون اسم يسوع سوف يضطّهَدون"، كما يقول بولس الرسول؛ وهذا ما أنبأنا به يسوع: "ليس عبدٌ أفضلَ من سيِّده ولا تلميذٌ أفضل من معلمِه"، "إنْ كانوا أحبّوني فسيحبّونكم وإنْ كانوا قد اضطّهدوني فسيضطّهدونكم"! نعم إنّ الشدائد حتميّة في الحياة وتتعدّد أسبابها. ولكن كيف يواجه المسيحيّ الشدائد؟
يرى بعضُ الوجوديّين أنّ أفضل حلّ للتخفيف من الآثار السلبـيّة للأحزان والشدائد، ما دامت حتميّة في الحياة، هو أن نقبلها بفرح، لأنّه إذا واجهناها بالحزن والغضب فإنّ أثارها السلبـيّة تزداد. فلنفرحْ فيها نخفّف منها! أمّا المسيحيّة فهي لا تقبل مثل هذه الحلول التي تستخدم المنطق كألعوبة تحاول التحايل على الشدّة لكن دون أن تلغيها. للشدة مفهوم عميق جدّاً مسيحيّاً، لا يتحدّد هذا المفهوم في الإطار السيكولوجيّ بل يأخذ بُعداً إسخاتولوجيّاً.
لا تقبل المسيحيّة الصعوبات والجهاد كقضاءٍ وقدر أسود! بل ترى فيها الطريقة الحقيقيّة للمشاركة في آلام المسيح. إن الصعوبات والظروف التي تجعل زمان حياتنا في "ضيق" ليست الظروفَ التي يريدها الله للإنسان في العالم. ولقد تجسّد هو "وحمل عاهاتنا وأوجاعنا" ليرفع وجه الألم عن وجه الأرض. عندما يتألم الإنسان أو أي إنسان، نحن نؤمن أن أكبر وأول متألم من أجله هو "يسوع" ابن الإنسان، لأنّه "مجرّب في كلّ شيء مثلنا" ما عدا الخطيئة، ولأجلنا. لقد جاء يسوع ليمسح الألم عن الأرض ويرفعه من حياة البشر، ولهذا فنحن نشاركه هذه الرسالة، بدءاً من حياتنا الشخصيّة، ولكن نمتد حتّى المسؤوليّة التي عن ضيقاتِ الآخرين. نعم، إنّ "الطريق الضيقة" تقودنا إلى الحياة مع الربّ يسوع، إذ نشاركه عمله الخلاصي. زمن الراحة هو زمن مسروق من حياة المسيحيّ، إنّه زمنُ للشيطان، يقول التقليد الرهبانـيّ. لهذا يخوض المسيحيّ الأزمنة الصعبة "بتعزية قويّة" لأنّه ينضّم بهذه الطريقة إلى صفّ المجاهدين والمرسَلين وتلاميذ سيّده يسوع. إنّنا نعيش التعزية من مفهومنا ذاته للتجربة. لأنّنا حين ندخل الضيقات كمشاركة في آلام المسيح نعرف أنّنا سوف نشارك لا بدّ في قيامته (2 كور 1، 8-10).
تعرف المسيحيّة في الشدّة خبرة عميقة أخرى، وهي خبرة الغلبة قبل حصولها. وهذا ما أوضحه بولس في حياة إبراهيم. لأنّ شدائدنا ليست دون رجاء. إنّ لنا رجاء كبير وسببه الوعد الإلهيّ. وليوضح بولس هذا الوعد يذكّر أن الله أقسم بذاته (لغة بشريّة) أنّه سيحقّق المواعيد. لهذا ونحن وسط الشدّة نرى غلبتنا عليها، إن لم تكن الآنيّة فهي الآتية. المسيحيّة دين غلبة، وهذا ما يريد أن يشدّد عليه كتاب سفر الرؤيا. إن شَعِرَ المسيحيّون يوماً أن التاريخ أفلت من أيديهم، وأن روح الشرير سيطرتْ على العالم، وأن التاريخَ صار ضدّ الرسالة وضدّ الإنسانيّة، فلا تُظلمُ الدنيا في أعينهم، لأنّ السيّد سيعود ويغلب. نهايةُ العالم هي الخيرُ وليس الشرَّ. وإن لم يكن ذلك ممكناً بقوانا، فإنه في لحظة من التاريخ عندما سيعجز المسيحيّون عن تخليص التاريخ، عند ذلك المنعطف الذي يظهر فيه أن كلّ شيء "قد انتهى"، ستغلب عبارة يسوع "قد تمّ" وستظهر علامة ابن البشر في السماء!
يذكر سفر الرؤيا المرأةَ المتسربلة بالشمس والقمر تلد مولودها البكر، ويظهر التنين ليأكل ابنها فيُخطف إلى السماء وتهرب هي إلى البريّة، إلى المكان الذي سبق الله وأعده لها، لتعيلها ألفاً ومئتين وستين يوماً، أي إلى منتهى الزمان. وهذه الكلمات تعني بالعمق، أن الشرّ لن يقوى على الخير، وأن الصعوبة هي تلك التي تحمل الدراما الحقيقيّة لأنّ نهايتها أكيدة على عكس ما يظهر- دون عين الإيمان- أنّ حياة الإنسان السعيدة تحمل طابع الدراما.
هكذا كان إبراهيم وسط كلّ الشدائد يحيا بالرجاء القويّ خبرةَ الحصول على الموعد. وهذا ما يعلمنا عنه القدّيس اسحق السريانـيّ أنّ الله لا يتركنا في شدّة دون أن يكون قد دبّر لنا قبلاً مخرجاً منها. لكن الحكمة الإلهيّة التي تريد أن تحترم حريّتنا وتدرِّب إيماننا رتّبتْ أن تُعطى النعمةُ قبلَ التجربة لكن أن يأتي الشعور بها بعد التجربة، لكي ندخل التجارب بإيمان! إنّ الشدّة، مسيحيّاً، مهما صعبت هي واهية، وذلك لأنّ لنا رجاءً موضوعاً أمامنا، والله وعد وهو صادق.
كلّ ما تقدَّم هو خبرة عامة، لكنّنا نختبرها في الصوم الكبير بشكل خاصّ. فإنّ اختيارنا "الطريق الضيّقة" بامتياز في الصوم لا يعني أن نعيش "مقطّبي الوجوه لكي نظهر للناس حزانى وأنّنا صائمون". على العكس نغسل وجهنا ونظهر فرحين. إنّ الصوم "كضيقة اختياريّة" ككلّ شدّة طوعيّة أو كرهيّة، يحمل في داخله إطلالات القيامة وإشراقاتها. إنّ الوعد الموضوع أمامنا هو رجاء كبير سيتحقّق في الفصح إنْ كنّا آمنّا كإبراهيم في زمن الصيام. وهذا الرجاء يعطينا "تعزيةً قويّة". إنّ آلام تجديدِ الإنسان وتطهيرِه من أهوائه، التي يجتازها الإنسان في الصوم عبر الصلوات والأصوام والتواضع، لا تُقارن بفرح الإنسان الجديد الذي سيولد يوم الفصح. لهذا نرنّم في الفصح "يا ما أحبّ يا أحلى نغمتك أيّها المسيح"، لأنّك وعدتنا وعداً صادقاً أن تكون معنا إلى نجاز الدهر، وهذا الوعد نعتصم به فنرنِّم متهلّلين".
كلّ شدّة تحمل بالرجاء المسيحيّ طِعْماً في داخلها سيحوّلها إلى غلبة، والصوم فيه طابع حزن لكنّه الحزن البهيّ. يحمل الصوم لوناً من الحرمانات-إذا جاز التعبير- لكن التعزيات غنيّة وقويّة. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل –وفي الصوم خاصّة- بالتعزية القويّة الآتية من لدن الربّ.
ذاك "إبراهيم" إذ تأنّى نال الموعد. إنّ هذا الرجاء المسيحيّ الثابت يعطي تعزيات قويّة، وهذه التعزيات تعطي القدرة على الصبر والانتظار والتأنّي في زمن الصوم كشدّة طوعيّة وزمن جهاد، ولا بدّ أنّنا سننال الموعد، آمين.
آميــن
"فنحصل على تعزية قويّة... بالرجاء الموضوع أمامنا"
يكلّمنا بولس الرسول في رسالة اليوم عن "تعزية قويّة" ينالها المؤمن في زمن الشدائد والصعوبات والجهاد، ويشرح لنا من أين تأتي هذه التعزية الكبيرة، وذلك بواسطة استذكار ما حدث مع إبراهيم.
آمن إبراهيم بالربّ، وتغرّب عن عشيرته وأرضه ورحل وقاسى في الحياة الكثير سائراً على الوعد الذي سمعه من الله: "سأكثِّر نسلَكَ كعدد نجوم السماء ورمل البحر". وما إن أنجبَ إسحقُ بعد أعجوبة وبنعمة سماويّة، إذ كانت سارةُ عاقراً لا تنجب، يتفاجأ، وإذا بالله يطلبُ منه اسحق ابنَه ذبيحةً، والذي كان يُفترض أن يتحقّقَ الوعدُ بواسطته. لقد جاء طلب الله لا منطقيّاً عكسَ وعده! ومع ذلك كان إيمان إبراهيم بالوعد قويّاً فوق المنطق البشريّ؛ ويبدو أنّه كان يؤمن تماماً بالكلمات التي قالها يسوع بعد زمان طويل "إنّ الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم"، لذلك قدّم ابنَه ذبيحةً حقيقيّة من كلِّ قلبه. لكن الله عندما رأى أنّ ذبحَ اسحق قد تمَّ في قلب إبراهيم، أوقف الذبيحة وأعاد اسحق إلى أبيه.
لهذا يقول بولس الرسول إنّ إبراهيم "تأنّى فنال الموعد"، أي صبرَ على التجارب والشدائد وظهر فيها أميناً مؤمناً بوعد الله مهما ظهرت الظروف مخالفة لذلك الوعد. كان إبراهيم يؤمن أنّ الله صادق، إذن لا بدّ أن تتحقّق المواعيد، وفعلاً هذا ما حصل له. هكذا زادتْ التجاربُ والشدائد التي تحمّلها إبراهيمُ من إيمانه بالله وعمّقتْ له الخبرةَ الشخصيّة بالله وثبتتْ ثقتَه به.
الشدائدُ هي أمر طبيعيّ في الحياة، لأنّ الإنسان يشقّ طريقه في عالم لا يراعيه دائماً لا طبيعيّاً ولا اجتماعيّاً، "وبعرق الجبين يأكل خبزه". وعلى الإنسان أن يجاهد ويتعب ليحافظ على حياته. لقد درج القول "كيف يشقى البار وينعم الشرير؟" وهذا القول صحيح نسبياً. لأنّ الجميع يشْقُون بشكل من الأشكال. إلاّ أنّ الشرير يتهرّب من المواجهة الشريفة لأوجه الشقاء في الحياة ويسلك طرقاً رخيصة مرّات على حساب الآخرين، فيبدو أنّه يحصل على تسهيلات في الحياة لا يحصل عليها البارّ، مثل الغنى غير الشرعي دون أتعاب،... الخ. لكن البارّ، من شرفيّة حياته ومن شعوره بالمسؤوليّة عن شقاء الجميع، يحمل في الحياة أتعاباً كثيرة ويتعرّض لشقاء مضاعف ربّما! هكذا بالحريّ جميع "الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى ويحبّون اسم يسوع سوف يضطّهَدون"، كما يقول بولس الرسول؛ وهذا ما أنبأنا به يسوع: "ليس عبدٌ أفضلَ من سيِّده ولا تلميذٌ أفضل من معلمِه"، "إنْ كانوا أحبّوني فسيحبّونكم وإنْ كانوا قد اضطّهدوني فسيضطّهدونكم"! نعم إنّ الشدائد حتميّة في الحياة وتتعدّد أسبابها. ولكن كيف يواجه المسيحيّ الشدائد؟
يرى بعضُ الوجوديّين أنّ أفضل حلّ للتخفيف من الآثار السلبـيّة للأحزان والشدائد، ما دامت حتميّة في الحياة، هو أن نقبلها بفرح، لأنّه إذا واجهناها بالحزن والغضب فإنّ أثارها السلبـيّة تزداد. فلنفرحْ فيها نخفّف منها! أمّا المسيحيّة فهي لا تقبل مثل هذه الحلول التي تستخدم المنطق كألعوبة تحاول التحايل على الشدّة لكن دون أن تلغيها. للشدة مفهوم عميق جدّاً مسيحيّاً، لا يتحدّد هذا المفهوم في الإطار السيكولوجيّ بل يأخذ بُعداً إسخاتولوجيّاً.
لا تقبل المسيحيّة الصعوبات والجهاد كقضاءٍ وقدر أسود! بل ترى فيها الطريقة الحقيقيّة للمشاركة في آلام المسيح. إن الصعوبات والظروف التي تجعل زمان حياتنا في "ضيق" ليست الظروفَ التي يريدها الله للإنسان في العالم. ولقد تجسّد هو "وحمل عاهاتنا وأوجاعنا" ليرفع وجه الألم عن وجه الأرض. عندما يتألم الإنسان أو أي إنسان، نحن نؤمن أن أكبر وأول متألم من أجله هو "يسوع" ابن الإنسان، لأنّه "مجرّب في كلّ شيء مثلنا" ما عدا الخطيئة، ولأجلنا. لقد جاء يسوع ليمسح الألم عن الأرض ويرفعه من حياة البشر، ولهذا فنحن نشاركه هذه الرسالة، بدءاً من حياتنا الشخصيّة، ولكن نمتد حتّى المسؤوليّة التي عن ضيقاتِ الآخرين. نعم، إنّ "الطريق الضيقة" تقودنا إلى الحياة مع الربّ يسوع، إذ نشاركه عمله الخلاصي. زمن الراحة هو زمن مسروق من حياة المسيحيّ، إنّه زمنُ للشيطان، يقول التقليد الرهبانـيّ. لهذا يخوض المسيحيّ الأزمنة الصعبة "بتعزية قويّة" لأنّه ينضّم بهذه الطريقة إلى صفّ المجاهدين والمرسَلين وتلاميذ سيّده يسوع. إنّنا نعيش التعزية من مفهومنا ذاته للتجربة. لأنّنا حين ندخل الضيقات كمشاركة في آلام المسيح نعرف أنّنا سوف نشارك لا بدّ في قيامته (2 كور 1، 8-10).
تعرف المسيحيّة في الشدّة خبرة عميقة أخرى، وهي خبرة الغلبة قبل حصولها. وهذا ما أوضحه بولس في حياة إبراهيم. لأنّ شدائدنا ليست دون رجاء. إنّ لنا رجاء كبير وسببه الوعد الإلهيّ. وليوضح بولس هذا الوعد يذكّر أن الله أقسم بذاته (لغة بشريّة) أنّه سيحقّق المواعيد. لهذا ونحن وسط الشدّة نرى غلبتنا عليها، إن لم تكن الآنيّة فهي الآتية. المسيحيّة دين غلبة، وهذا ما يريد أن يشدّد عليه كتاب سفر الرؤيا. إن شَعِرَ المسيحيّون يوماً أن التاريخ أفلت من أيديهم، وأن روح الشرير سيطرتْ على العالم، وأن التاريخَ صار ضدّ الرسالة وضدّ الإنسانيّة، فلا تُظلمُ الدنيا في أعينهم، لأنّ السيّد سيعود ويغلب. نهايةُ العالم هي الخيرُ وليس الشرَّ. وإن لم يكن ذلك ممكناً بقوانا، فإنه في لحظة من التاريخ عندما سيعجز المسيحيّون عن تخليص التاريخ، عند ذلك المنعطف الذي يظهر فيه أن كلّ شيء "قد انتهى"، ستغلب عبارة يسوع "قد تمّ" وستظهر علامة ابن البشر في السماء!
يذكر سفر الرؤيا المرأةَ المتسربلة بالشمس والقمر تلد مولودها البكر، ويظهر التنين ليأكل ابنها فيُخطف إلى السماء وتهرب هي إلى البريّة، إلى المكان الذي سبق الله وأعده لها، لتعيلها ألفاً ومئتين وستين يوماً، أي إلى منتهى الزمان. وهذه الكلمات تعني بالعمق، أن الشرّ لن يقوى على الخير، وأن الصعوبة هي تلك التي تحمل الدراما الحقيقيّة لأنّ نهايتها أكيدة على عكس ما يظهر- دون عين الإيمان- أنّ حياة الإنسان السعيدة تحمل طابع الدراما.
هكذا كان إبراهيم وسط كلّ الشدائد يحيا بالرجاء القويّ خبرةَ الحصول على الموعد. وهذا ما يعلمنا عنه القدّيس اسحق السريانـيّ أنّ الله لا يتركنا في شدّة دون أن يكون قد دبّر لنا قبلاً مخرجاً منها. لكن الحكمة الإلهيّة التي تريد أن تحترم حريّتنا وتدرِّب إيماننا رتّبتْ أن تُعطى النعمةُ قبلَ التجربة لكن أن يأتي الشعور بها بعد التجربة، لكي ندخل التجارب بإيمان! إنّ الشدّة، مسيحيّاً، مهما صعبت هي واهية، وذلك لأنّ لنا رجاءً موضوعاً أمامنا، والله وعد وهو صادق.
كلّ ما تقدَّم هو خبرة عامة، لكنّنا نختبرها في الصوم الكبير بشكل خاصّ. فإنّ اختيارنا "الطريق الضيّقة" بامتياز في الصوم لا يعني أن نعيش "مقطّبي الوجوه لكي نظهر للناس حزانى وأنّنا صائمون". على العكس نغسل وجهنا ونظهر فرحين. إنّ الصوم "كضيقة اختياريّة" ككلّ شدّة طوعيّة أو كرهيّة، يحمل في داخله إطلالات القيامة وإشراقاتها. إنّ الوعد الموضوع أمامنا هو رجاء كبير سيتحقّق في الفصح إنْ كنّا آمنّا كإبراهيم في زمن الصيام. وهذا الرجاء يعطينا "تعزيةً قويّة". إنّ آلام تجديدِ الإنسان وتطهيرِه من أهوائه، التي يجتازها الإنسان في الصوم عبر الصلوات والأصوام والتواضع، لا تُقارن بفرح الإنسان الجديد الذي سيولد يوم الفصح. لهذا نرنّم في الفصح "يا ما أحبّ يا أحلى نغمتك أيّها المسيح"، لأنّك وعدتنا وعداً صادقاً أن تكون معنا إلى نجاز الدهر، وهذا الوعد نعتصم به فنرنِّم متهلّلين".
كلّ شدّة تحمل بالرجاء المسيحيّ طِعْماً في داخلها سيحوّلها إلى غلبة، والصوم فيه طابع حزن لكنّه الحزن البهيّ. يحمل الصوم لوناً من الحرمانات-إذا جاز التعبير- لكن التعزيات غنيّة وقويّة. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل –وفي الصوم خاصّة- بالتعزية القويّة الآتية من لدن الربّ.
ذاك "إبراهيم" إذ تأنّى نال الموعد. إنّ هذا الرجاء المسيحيّ الثابت يعطي تعزيات قويّة، وهذه التعزيات تعطي القدرة على الصبر والانتظار والتأنّي في زمن الصوم كشدّة طوعيّة وزمن جهاد، ولا بدّ أنّنا سننال الموعد، آمين.
آميــن
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى